تقرير: نداء نصير
شفاعمرو- تفانين- ما شدني إلى كتابة هذا التقرير، هو الوجه الجميل الذي لم نعد نراه منذ سنوات عديدة. فلدي أصدقاء حميمين من طوائف مختلفة، منهم من ترعرعت معهم، ومنهم من التقيت بهم في مراحل دراستي التعليمية.. والأمر كان طبيعيا، ما دام المتبع متبع.. أما اليوم، فقد انعدم هذا الخليط الطائفي، والذي آن له أن ينسج قوس قزح جميل يزيد مجتمعنا جمالا ورونقا.
أن تجد هذا الخليط في مدينة عريقة كمدينة شفاعمرو، بات أمرا نادرا.. أن تجد مسلمين في مدارس الراهبات، قليلا.. وأن تجد مسيحيين في مدارس حكومية.. فإنه الأغرب.. وحدث بلا حرج، عن البقية الأخيرة من هذا النسيج.. دروز، في مدارس خاصة بهم..
فكيف إذا، للمسيحي أن يتعرف على أخيه المسلم، وكيف للأخير أن يتعرف على الدرزي.. وهكذا..
جمعية سوا- ابتكرت حلا: مدرسة من نوع آخر، تعتمد شرطا أساسيا في انتقاء طلابها، وهو التوازن الطائفي. مدرسة على شاكلة مشروع، أطلق عليه اسم: الفن لغة حوار.
يهدف هذا المشروع إلى تطويع الفن بهدف التعايش بين أبناء الطوائف المختلفة في شفاعمرو، وإلى تقوية روابط الصداقة والأخوة بين أبناء البلد الواحد. وتشارك في المشروع ثلاث مدارس ابتدائية.
أتت الفكرة- كما يقول مدير جمعية سوا الفنان رحيب حداد- بعد أن رأينا التقسيم الطائفي الموجود في المدارس، والذي يؤدي إلى تباعد وعدم معرفة الآخر. فمن خلال الفنون يمكن خلق الحوار، وهي فرصة للتعرف على الآخر، وإزالة المخاوف منه، ليصل الجميع إلى استنتاج أن لدينا ذات القيم وذات التراث، رغم الاختلاف الطائفي.
يدعم المشروع، صندوقا ألمانيا، والذي وافق على ذلك، شريطة أن يكون المشروع هادفا ويخدم الشريحة الأكبر من الناس. وبدأ المشروع عمله منذ أواسط شباط من العام الحالي، ومن المرتقب أن ينتهي في تموز من نفس العام.
أما عن المجالات التي يشملها المشروع، فهي أربع ورشات: ورشة الموسيقى (فرقة عزف)، ورشة دراما (مسرح) و ورشة للفنون اليدوية، وورشة للرسم.
ويعمل القيمون على المشروع، على ترتيب احتفال خاص مع نهايته، تعرض فيه أعمال الطلاب في جميع المجموعات، وفيه أيضا يقوم كل طالب باستلام شهادة اشتراك.
ويرى رحيب حداد في السياق ذاته، أن هذه النوعية من المشاريع لها أهمية كبيرة، ويطمح إلى إستمراريتها، حتى تعمل على التقارب بين أبناء المدينة الواحدة على اختلاف طوائفهم. لافتا بذلك انتباه المسؤولين والمعنيين، منهم المؤسسات البلدية والوطنية، للعمل على دعم جمعية سوا، فيما تقدمه من نشاطات لتصل إلى مراحل أبعد.
وجمعية سوا وهي الوجه العلماني لدير راهبات الناصرة، تسعى من خلال فعالياتها إلى بناء ونمو الشخصية الإنسانية للتعايش مع روح الناصري وراهباته. ويعتبر مشروع الفن- لغة حوار، استمرارا لمشاريع عدة خاضتها الجمعية على مدار أكثر من عشر سنوات.
وفي لقاء أجريناه مع معلمة الفنون، الفنانة نديمة قرمان، والتي تزاول عملها بمشروع الفن لغة حوار. ترى إن للمشروع أهمية قصوى، في جعل أهالي شفاعمرو مترابطين.
أما عن كيفية انتقاء الطلاب للمشروع، فتقول قرمان: تقدم عدد كبير من الطلاب، فتم اختيارهم بواسطة امتحان قبول، يعتمد على فحص مدى قدرات الطلاب على التقدم، كذلك كان اعتمادنا على التوازن الطائفي.
وتلاحظ قرمان مدى الفاعلية والانسجام بين الطلاب، خاصة وأنهم لم يكونوا على معرفة مسبقة، وكذلك انعدام معرفة الآخر، فعلى سبيل المثال، تروي كيف أن طلابا استغربوا وجود طالبة مسيحية صائمة، إذ أنهم لم يكونوا ليعرفوا أن المسيحيين يصومون أيضا!
أمثلة كثيرة تأتي بها معلمة الفنون، توحي بكسر حاجز الخوف والرهبة من الآخر، كونه يختلف عنه طائفيا.
ميخائيل حلاق، معلم الرسم في المشروع، وهو من مواليد فسوطه، حاصل عل اللقب الأول في الفنون وعلم الآثار. يعمل حاليا في جامعة حيفا وأيضا في جمعية سوا.. وعن علاقته بالمشروع، يقول: أن فكرته رائعة، لا وبل هائلة، وحسب رأيه، أن هكذا مشروع، لا بد أن يتواجد في بلد متعدد الطوائف، والذي يهدف إلى تقارب بين الطلاب على اختلاف طوائفهم.
هذا، وقد تم اختيار (24) طالبا وطالبة من بين أكثر من مائة طالب كانوا قد تقدموا لاختبار القبول لورشة الرسم، وقد اعتمد الاختبار على فحص مخيلة الطالب، ومقدرته التقنية على الرسم.
وما أثار انتباه السيد حلاق، ومنذ اللقاء الأول، هو جلوس الطلاب عشوائيا، وبشكل طائفي. لكن هذا الوضع كان قد تغير. ويرى أن تخوف الطلاب من بعضهم البعض قد زال. وفكرة مسيحي بعبع، أو مسلم بعبع قد انتهت، على الأقل في الدورة.
وما كان للتقرير أن يأخذ حقه، دون إشراك وأخذ رأي الطلاب. فعامر أبو السرايا، من المدرسة الابتدائية ج، كان قد تعرف على الدورة من خلال منشور وزع في المدرسة. ومن دوافع دخوله الدورة، هو اقتناعه أنها دورة تشد اليدين، وأنه يعشق الفنون اليدوية.
أما عن الطلاب المشاركين في الدورة، فيعقب عامر، وهو طالب في الصف الرابع، عن فرحته كونه ينمي علاقات جديدة مع طلاب لم يعرفهم من قبل وبشكل خاص طلاب من طوائف مختلفة. فعلى حد تعبيره البسيط والطفولي: استمتع بوجود طلاب من طوائف مختلفة.
سوزان شهاب، طالبة من مدرسة الراهبات، كانت قد عرفت بالدورة أيضا من خلال منشور وزع في مدرستها. فهي طالبة موهوبة، إضافة إلى كونها تحب الفنون، فهي أيضا راقصة فلامينكو بفرقة رقص، من قبل جمعية سوا.
وترى الطفلة سوزان، طالبة الصف السادس، جانبا آخر لهذه الدورة، فمن خلالها تتعرف على أصدقاء جدد، ودون حرج تقول: من طوائف أخرى. وحسب رأيها هذا الأمر هام جدا، لأنه علينا أن نجتمع معا ونكون علاقة طيبة بيننا والتعرف على بيئات بعضنا. فيروق لي أن أتعرف على تلك البيئات.
تهاني أبو شاح، طالبة من مدرسة العين، والتي أصبحت صديقة حميمة لكاترين، وقد تبادلتا أرقام الهواتف. تعتز بهذه الدورة، لأنها تعطيها الإمكانية أن تعبر عن نفسها كما تريد. فهي تشعر بالسعادة حين تتواجد في الدورة، وكذلك تعرفت على صديقات جدد ومن طوائف مختلفة. وعن ذلك تقول: هذا جيد وصحي للغاية.
وفي ذات السياق، تعلق الطالبة أروى خنيفس، من مدرسة العين، عن حبها لهذه الدورة والتي اكتشفت من خلالها، موهبتها في الأشغال اليدوية. الدورة جيدة، وقد تعرفت من خلالها على جمعية سوا. وأنا فرحة جدا لأني استطعت التعرف على طلاب من طوائف مختلفة.
إذا، ما لم تقم به المؤسسات البلدية، والجهات الفاعلة في المجتمع، تقوم به جمعية أهلية خاصة، مثل جمعية سوا، وبطريقة بسيطة جدا.. من خلال مشروع، يشد الطلاب، دون النظر إلى انتماءاتهم الطائفية.. مشروع جميل، يمحو البعبع المسيحي من أذهان الطالب المسلم، والعكس. مشروع يرى النور منذ شهر تقريبا، أطلق عليه قيّموه: الفن لغة حوار.
إن انعدام هذا الخليط بين أبناء الشعب الواحد، لهو وباء قاتل. يجب العمل على مناهضته بشتى السبل، لأن عواقبه وخيمة علينا جميعا.. ومن يعتقد أنه الناجي، فهو مخطئ لا محالة.
تخيلوا لو أن مثل هذه المشاريع تجتاح بلداتنا ومدننا، أمامها تداس النعرات الطائفية، وسنكون حينها منشغلين منهمكين بأمور أهم وأعظم، تجعلنا من المجتمعات التي تستحق أن يكتب عنها التاريخ، ما يجب أن يكتب ويقال.